كان الطب في مقدمة العلوم التي ازدهرت في الحضارة العربية، بعد العلوم الدينية وعلوم اللغة العربية.
يعود تطور الطب العربي وازدهاره إلى جملة من العوامل نذكر منها: تشجيع الإسلام على دراسة الطب فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): يا عباد الله تداووا، إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، عَلمه من علمه وجهله من جهله . وقال الإمام الشافعي «لا أعلم علماً، بعد الحلال والحرام، أنبل من الطب». وقد ظهر في صدر الإسلام الطبيبان الحارث بن كلدة الثقفي وابنه النضر، وهما من الطائف. وقد حظي الحارث بمكانة كبيرة. وكان يلقب «بطبيب العرب»، وأشرف على علاج بعض الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص. وجاء اهتمام الخلفاء والأمراء الأمويين والعباسيين بالطب والأطباء ليشكل بدوره عاملاً مهماً في تطوره وازدهاره، ولكن من أهم العوامل التي ساعدت على ازدهار الطب العربي هو ماتُرجم إلى العربية في ميدان الطب من الحضارات الأخرى، وبخاصة ما ترجم عن الإغريقية (اليونانية) من مؤلفات أبقراط وجالينوس وغيرهما. وكان الأطباء الكبار، من العرب والمسلمين، يجمعون في تكوينهم العلمي مابين الطب والفلسفة، مثلهم في ذلك مثل الأطباء الإغريق.فالفلسفة كانت أساسا أو ميزانا توزن به النظريات العلمية التي سجلها الأطباء، وجعلت هؤلاء الأطباء ينظرون إلى الإنسان نظرة كلية شاملة، بحيث تمكنهم من النفاذ إلى عناصر البنية الإنسانية ووضع المناهج والنظريات الطبية المتكاملة التي تكشف عن آلية التفاعل بين هذه العناصر. وظل الكثير من الفلاسفة العرب، وحتى القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، يعتقدون أن الطب ليس بحد ذاته علمًا بل «صناعة»، ولا تكتمل مقوماته كعلم إلا بعد دراسة الفلسفة. وربما هذا يفسر لنا السبب في عدم إدراج الفيلسوف الفارابي (ت 932م) «الطب التطبيقي» في كتابه «إحصاء العلوم». ولهذا فقد كان من تقاليد الطب العربي أن من يود أن يكون طبيبا حاذقا يجب عليه أن يكون فيلسوفا أيضا. وقد ميز العرب تمييزا واضحا بين الطبيب والمتطبب،فالأول كان يتقن الطب والفلسفة أي كان «حكيمًا»، أما الثاني، وهو المتطبب، فكان لا يتقن إلا صناعة الطب. ولاشك في أن هذه السمة حققت للأطباء العرب والمسلمين أمثال الرازي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، مكانة رفيعة في تاريخ الحضارة الإنسانية.
_ الحــس النقــدي .
ويأتي الحس النقدي، الذي تمتع به الأطباء العرب، ليشكل صورة مشرقة أخرى في تاريخ الطب العربي. حقيقة لقد أفاد الأطباء العرب - في بداية نهضتهم - مما ترجم من الطب الإغريقي وغيره، ولكنهم سرعان ماقاموا بنقده وتصحيحه وتجاوزه، في عصر لم يكن أحد يجرؤ على نقد آراء ونظريات الأطباء الإغريق، أمثال أبقراط وجالينوس. فهذا الطبيب الرازي (ت 926م) يؤلف كتابًا بعنوان «الشكوك على جالينوس»، كما رد على من وجه إليه اللوم على نقده لجالينوس بقوله: إن من لم يجرؤ على النقد لا يُعدُّ فيلسوفًا، وإنما من الرعاع الذين يقلدون الرؤساء ولا يجرءون على الاعتراض عليهم. ويدعم الرازي موقفه النقدي هذا بالإشاره إلى قول مشهور للفيلسوف الإغريقي أرسطو، حين قال: «اختلف الحق وأفلاطون? وكلاهما لنا صديق - إلا أن الحق أصدق من أفلاطون». كما كشف ابن سينا (ت 1037م) في كتابه «القانون في الطب» الكثير من التناقضات في آراء جالينوس الطبية. أما ابن النفيس (ت 1288م) فلم يتردد في كتابه «شرح تشريح القانون» في نقد أعمال جالينوس في ميدان التشريح. ويهمنا أن نؤكد أن هذا الحس النقدي إن دل على شيء فإنما يدل على استقلالية الأطباء العرب بنظرياتهم وخبراتهم عن الطب الإغريقي.
_ الشمــوليــة .
ومن الصور المميزة للطب العربي الشمولية، أي الاهتمام بالجسد والنفس على السواء.لأن العلاقة بين ما هو مادي وبين ما هو معنوي أو نفسي، في حياة الإنسان، علاقة جدلية، فإذا كان الطب الإغريقي يركز بالدرجة الأولى على الأسباب المادية للمرض، والطب الهندي يوجه اهتمامه الرئيسي إلى الأسباب النفسية والعقلية للمرض، فإن الطب العربي اهتم بالجانبين معًا، بحيث إذا أخفق الطبيب في الكشف عن الأسباب المادية للعلة يتجه مباشرة إلى الجوانب النفسية. وقد كتب عدد من الأطباء العرب مؤلفات مهمة في «الطب النفسي». فقد صنف الطبيب «يوحنا بن ماسويه» كتابا بعنوان «الماليخوليا» وأسبابها ومظاهرها وعلاجها. كما ألف حنين بن إسحق كتابًا بعنوان «تدبير السوداويين». وألف الرازي، الذي كان خبيرًا بالعلاج النفسي، كتابًا بعنوان «الطب الروحاني» وهو يكمل فيه كتابه «المنصوري»، الذي يتناول فيه أمراض الجسم، في حين الأول يتناول أمراض النفس. وتروي كتب تاريخ الطب الكثير من الوقائع التي تثبت مدى مهارة الأطباء العرب في العلاج النفسي، فيروي ابن أبي أصيبعة واقعة تؤكد مهارة ابن سينا في هذا الفرع من الطب ويقول: استدعي ابن سينا ذات يوم «للكشف عن أحد المرضى، وبعد فحصه فحصا دقيقا تأكد أنه لا يعاني من أي مرض عضوي ولكن من حالة نفسية. وعندئذ استدعى رجلاً يعرف أحياء المدينة وشوارعها، وأخذ في سرد أسماء الأحياء اسما اسما، بينما يضع ابن سينا إصبعه على رسغ المريض ويحس بنبضه ويلحظ التغييرات على وجهه. ولاحظ عليه التأثر عند ذكر اسم حي معين من أحياء المدينة، وعندئذ بدأ المتحدث بذكر شوارع ذلك الحي حتى اكتشف ابن سينا الشارع الذي تأثر بذكره المريض... وهكذا حتى وصل إلى ذكر البيوت وساكنيها فردا فردا، حتى ذكر اسم فتاة معينة فعرف ابن سينا بأن الشاب يهواها وكان العلاج هو الزواج وتم بعده الشفاء». كما يتحدث ابن أبي أصيبعة نفسه، وبإعجاب شديد، كيف نجح الطبيب سنان بن ثابت في علاج واحد من كبار أمراء العصر العباسي الثاني من جملة من الأمراض النفسية والعصبية.
_ التسامــح والطــب .
لقد تجلى التسامح - الذي يعد سمة أساسية من سمات المجتمع العربي الإسلامي - بصورة رائعة في ميدان الطب، حيث لم تكن هذه المهنة حكرًا على دين أو عرق أو جنس معين، بل درسها ومارسها كل من كان يعيش في الدولة العربية، بغض النظر عن هويته. فقد عمل في بلاط الخلفاء والأمراء الأمويين والعباسيين أطباء من ديانات وجنسيات مختلفة، وكانوا جميعًا موضع احترامهم وتقديرهم. فقد عمل في البلاط الأموي بدمشق، مثلا، أطباء مسيحيون أمثال : ابن أثال الذي اصطفاه الخليفة معاوبة بن أبي سفيان لنفسه (ت 60هـ / 680م)، والطبيب ابن أبجر الذي عمل في بلاط الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/ 720م). كما خدم في البلاط العباسي أطباء من أصول مختلفة، مثل الطبيب جورجيس بن بختيشوع المسيحي النسطوري، الذي كان طبيب الخليفة أبي جعفر المنصور (ت 158هـ/ 775م) واستمر أبناؤه وأحفاده في خدمة البيت العباسي أكثر من ثلاثة قرون. كما عمل في البلاط العباسي أطباء من الصابئة أمثال ثابت بن قرة وأولاده وأحفاده. واستقدم العباسيون أيضا أطباء من الهند إلى بغداد أمثال «منكة» الذي مارس الطب والترجمة من الهندية إلى العربية. وعمل في البلاط الفاطمي في مصر أطباء من اليهود أمثال موسى بن العازار وأبنائه وأحفاده، وأطباء مسيحيون أمثال منصور بن سهلان. وخدم في بلاط صلاح الدين الأيوبي (ت589هـ/1193م) عدد من الأطباء المسيحيين - على الرغم من صراعه مع الصليبيين - أمثال أسعد بن المطران وأبي الفرج النصراني، هذا فضلاً عن الطبيب اليهودي المشهور موسى بن ميمون.
وتجلى التسامح الديني في جانب آخر من جوانب الطب العربي، وهو أن قوانين المستشفيات، التي أسست في الدولة العربية، كانت تنص صراحة على عدم التمييز في المعالجة بين المسلم وغير المسلم أو بين العربي وغير العربي، أي كانت أبوابها مفتوحة لعلاج كل من كان يعيش في المجتمع العربي الإسلامي بغض النظر عن الدين والعرق. وهناك واقعة تاريخية تؤكد هذه الحقيقة وهي أنه عندما انتشر الوباء أيام الخليفة العباسي المقتدر بالله ( ت 320هـ/932م) أمر الوزير علي بن عيسى رئيس الاطباء في بغداد آنذاك، وهو سنان بن ثابت الصابئي، بأن يبعث بالأطباء لمعالجة أهل الريف في قراهم. ونفذ الأمر في الحال، ولكن شاءت الصدفة أن يصل هذا الفريق الطبي أثناء الطواف في الريف العراقي إلى بلدة اسمها «سوار» سكانها من اليهود. فكتب الأطباء إلى سنان يطلبون منه الإذن في الإقامة عندهم وعلاجهم. فأبلغ سنان الوزير بالأمر مؤكدا له بأن قوانين المستشفيات في بغداد وغيرها تقضي بأن يعالج فيها المسلم والذمي على السواء. فأصدر الوزير أمرا خطيا إلى سنان يسمح فيه أن يعالج الذميون والمسلمون في الأرياف سواء دون تمييز، وأمره أن يكتب إلى الفريق الطبي الذي يطوف في القرى بتنفيذ هذا القرار.
يتبـــــــــــع >>>>>>>>>>>>